تاريخ التسجيل : 01/01/1970
| موضوع: الجزء الثامن من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم الجمعة نوفمبر 09, 2012 12:11 pm | |
| فتح مكة فتح مكة فى أواخر السنة الثامنة من الهجرة كان قد أتى على صلح الحديبية سنتان ، وكان من بين شروطه كما ذكرنا أن من أحب أن يدخل فى عهد محمد دخل فيه ومن أحب ان يدخل في عهد قريش دخل فيه وبمقتضى هذا الشرط دخلت قبلية خزاعة فى حلف مع النبى–ودخلت قبيلة بنى بكر فى حلف مع قريش ، وكانت القبيلتان تسكنان أحياء من مكة وضواحيها وبينهما تارات قديمة وعداء متوارث يرجع تاريخه الى ما قبل البعثة
وذات يوم تحركت هذه الاحقاد فاغتنم بنو بكر حلفاء قريش هدنة الحديبية وفاجأوا خزاعة حلفاء النبى وأمدتهم قريش بالخيل والسلاح حتى لقد ذكر الواقد أن ممن إشترك فى القتال سرآ صفوان بن أمية وعكرمة بن أبى جهل وسهيل بن عمرو مع غيرهم وعبيدهم وقد بلغ بهم الحمق والطغيان أن يطاردوا خزاعة حتى الحرم ويقاتلونهم فيه حيث لا يجوز فيه القتال
فلما انتهوا إليه قال نفر من بنى بكر لرئيسهم نوفل بن معاوية إنا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك فقال كلمة عظيمة لا إله اليوم يا بنى بكر اصيبوا ثأركم فلعمرى إنكم لتسرقون فى الحرم أفلا تصيبون ثأركم فيه
ولعل السر فى تورط قريش ومساعدتها لبنى بكر هو أنها فسرت تفسيرا خاطئا ما جرى لجيش المسلمين فى سرية مؤته إذ إعتقدت أن ما جرى كان هزيمة كبيرة لحقت بالمسلمين وهذا خطأ فادح وقعت فيه وترتب عليه إرتكابها لهذا الخطأ الأحمق وانتهاكها لشروط صلح الحديبية وما ترتب على ذلك من فتح مكة كما سنرى
خزاعة تستنجد بالرسول فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة وأصابوا منهم ما أصابوا ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم من العهد والميثاق بما استحلوا من خزاعة خرج عمرو بن سالم الخزاعي وقدم على رسول الله فى المدينة وأنشدة أبياتا ينشده فيها الحلف الذي كان بينه وبين خزاعة ويسأله المعونة والنجدة ويخبره بأن قريشا اخلفوه الموعد ونقضوا الميثاق المؤكد فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم: نصرت يا عمرو ابن سالم
وأراد الرسول صلى الله عليه و سلم أن يستوثق منهم الخبر ويعذر إلى قريش فبعث إليهم رجلاً يخيرهم بين ثلاث – أن يدفعوا دية قتلى خزاعة – او يبرأوا من حلف بنى نفاثة (بطن من بنى بكر) الذين قادوا الحملة على خزاعة – أو ينبذ إليهم على سواء فأجابه بعض زعمائهم لكن ننبذ إليهم على سواء وبذلك برئت ذمة قريش وقامت عليهم الحجة
ولكن قريشا فكرت في الأمر مليا اقتنعت أن المسلمين ألان قد اصبحوا قوة لا يمكن مواجهتها وأن فيهم ألان من أبطالهم السابقين خالد بن الوليد وعمرو ابن العاص وقبائل كثيرة قد اعتنقت الإسلام , ولذلك ندمت علي ما أجاب به بعض سفهائها من إجابة متهورة ، و انتهى رأيهم أن يبعثون أبا سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ليجدد العهد ويزيد من المدة ويدارك الازمة قبل استفحال خطرها
وقدم أبو سفيان على رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة ودخل على ابنته " أم حبيبة " زوج النبى ليزورها فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله طوته عنه فقال يا بنية : ما أدرى أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عنى ؟ قالت : بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنت رجل مشرك نجس ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر
وخرج من عندها غضبان أسفا حتى أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فكلمه ابو سفيان فلم يرد النبي شيئا فذهب ابو سفيان إلى أبي بكر فأعرض عنه كما أعرض عمر و علي فعاد أبو سفيان دون ان يحصل من النبي على وعد باستمرار المسالمة و لكنه ظهر بعهد الجوار حتى وصل الى مكة
فلما قدم على قريش قالوا لابي سفيان : ما ورائك ؟ قال جئت محمدا فكلمته فوالله ما رد على شيئاً ثم جئت ابن أبى قحافة فلم أجد فيه خيراً ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أدنى العدو ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم وقد أشار علي بشئ صنعته فوالله ما أدرى هل يغنى ذلك شيئا أم لا ؟ قالوا : وبم أمرك ؟ قال : أمرني أن اجير بين الناس ففعلت قالوا : فهل أجاز ذلك محمد ؟ قال:لا قالوا:ويلك والله ما زاد الرجل على أن لعب بك فما يغني عنك ما قلت قال : لا والله ما وجدت غير ذلك
التأهب لفتح مكة واضطربت الاحوال فى مكة عقب عودة أبى سفيان وإبلاغهم بما حدث لكن النبى لم يتركها طويلا فى اضطرابها فقد عقد العزم على فتح مكة ، وتجهز النبى والمسلمون للخروج واستعان على أمره بالكتمان ثم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة وأمرهم بالجد والاستعداد وقال : اللهم خذ العيون والاخبار عن قريش حتى نبغتها فى بلادها وكان الرسول صلى الله عليه و سلم لا يريد الدماء ويرد دعيبمكة فى سلام حتى لا تمس حرمتها وأن يدخل أهلها في الإسلام لينعم أهلها بنعمة الإيمان
وبينما الرسول والمسلمون على أمرهم من الاستعداد والكتمان حدثت محاولة من أحد الصحابة كادت أن تكشف نية المسلمين لمشركي مكة ، فقد كتب حاطب بن أبى بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم من الغزو ، ثم أعطى حاطب الكتاب لامرأة وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا فجعلته فى قرون رأسها ثم خرجت به ، وأتى رسول الله الخبر من السماء بما صنع حاطب فبعث رسول الله على بن أبى طالب والزبير بن العوام فقال أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بن أبى بلتعة بكتاب إلى قريش يحذرهم ما قد أجمعنا له فى أمرهم فخرجا حتى أدركاها بالحليفة فاستنزلاها فى رحلها فلم يجدا شيئاً فقال لها على رضى الله عنه– انى أحلف ما كذب رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا كذبنا ولتخرجن الكتاب أو لنكشفنك ، فلما رأت الجد منه قالت : أعرض فأعرض عنها فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منها فدفعته اليه ، فدعا رسول الله حاطبا فقال يا حاطب ما حملك على هذا ؟ فقال يا رسول الله أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله ما غيرت ولا بدلت ولكنى كنت امرأ ليس لى فى القوم أصل ولا عشيرة وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليهم فقال عمر بن الخطاب دعني يا رسول الله أضرب عنقه فإنه قد نافق فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إنه قد شهد بدرا وما يدريك يا عمر لعل الله أطلع على أهل بدر فقال أعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم
وهكذا شفع لحاطب ماضيه الطيب مع الإسلام والمسلمين ونيته التي جعلته يتخذ هذا الموقف لا عن كفر او بغض للإسلام وإنما مصانعة لقريش من أجل أهله وأولاده وقد سامحه الله على هذا الضعف الانساني الذي تعرض له فى هذا الموقف ، وفى حاطب نزل قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ}سورة الممتحنة – الآية 1
وتحرك الجيش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فى رمضان من السنة الثامنة للهجرة وكلما تقدموا انضم إليهم من سائر القبائل من يزيد فى عدد المسلمين ومنعتهم حتى بلغوا مالا يقل عن عشرة آلاف مسلم ، وصام الرسول وصام الناس معه حتى إذا كان بالكديد (قرية قرب مكة ) أفطر ومضى حتى نزل " مر الظهران " على بعد ثلاثين كيلو مترا شرقي مكة فضربوا خيامهم فيه وعمى الله الاخبار عن قريش فلم يأتهم خبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يدرون ما هو فاعل وأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم الجيش فأوقدوا النيران فأوقدت عشرة آلاف نار حتى أضاء منها الوادي
أبو سفيان يستطلع الاخبار وحينما رأى القرشيون فجأة هذه المشاعل الكثيرة دهشوا ولم يعلموا حقيقة ما يرون فخرج منهم أبو سفيان بن حرب ومعه حكيم بن خزام وبديل بن ورقاء يتحسسون الاخبار
وكان العباس بن عبد المطلب قد خرج من مكة قبل ذلك بأهله وعياله مسلما مهاجرا إلى المدينة فقابلوا الرسول فى الطريق مقبلا بجيشه على مكة ، فأمره الرسول أن يعود معه إلى مكة ويرسل أهله إلى المدينة وقال له الرسول:هجرتك ياعم آخر هجرة كما أن نبوتي آخر نبوة
ورأى العباس بن عبد المطلب قوة جيش المسلمين ففكر فى أمر قريش وماذا ستصنع أمام الرسول وجيشه وكان فى قلق شديد على مكة أن تفتح عنوة فقال : "واصباح قريش والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر" وهداه تفكيره أن يخرج عسى أن يقابل أحدا يرسله إلى مكة ليخبر قريشا بما عزم عليه رسول الله ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة ، وبذلك يدخل الرسول مكة من غير أن تسفك دماء
وبينما هو كذلك سمع كلام أبى سفيان وبديل بن ورقاء (الذين بعثت بهم قريش ليتعرفوا لها خبر الجيش فى مر الظهران كما ذكرنا) وهما يتراجعان ، وأبو سفيان يقول : ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا فرد عليه بديل بن ورقاء : هذه والله خزاعة حمشتها ( أحرقتها ) الحرب فرد عليه أبو سفيان : خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها عسكرها ، فعرف العابس صوت أبى سفيان فنادى يا أبا حنظلة فعرف صوته فقال : أبو الفضل فقال العباس نعم فقال أبو سفيان : مالك ؟ فداك أبي و أمي فقال العباس : ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم فى الناس واصباح قريش والله قال فما الحيلة ، فداك أبي و أمي فقال له العباس والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك فاركب عجز هذه البغلة حتى آتى بك رسول الله فأستأمن لك
وأركبه العباس و خشى عليه أن يدركه أحد المسلمين فيقتلة ، وأتى بأبي سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما رآه قال : ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله قال أبو سفيان : بأبي أنت و أمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عنى شيئا بعد قال الرسول : ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ؟ قال : بأبي أنت و أمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه والله فإن فى النفس منها حتى الآن شيئا فقال العباس : ويحك أسلم وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله قبل أن تضرب عنقك فأسلم وشهد شهادة الحق ثم أسلم حكيم بن خزام وبديل أبن ورقاء
وقال العباس للرسول إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا قال نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ، وقد أرضاه الرسول صلى الله عليه و سلم كما يقول الشيخ الغزالي بما لا يضر أحد ولا يكلف جهدا فلما ذهب لينصرف قال رسول الله يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها – فلا تبقى فى نفسه أثارة لمقاومة – فخرج حتى حبسه بمضيق الوادي حيث أمره رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يحبسه
و تحركت كتائب الفتح وكانت القبائل تمر على راياتها كلما مرت قبيلة سأل العباس عنها فيقول مالي ولبني فلان ؟ حتى مر رسول الله صلى الله عليه و سلم فى كتيبة فيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد فقال سبحان الله يا عباس من هؤلاء ؟ قال : هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم فى المهاجرين والأنصار فقال أبو سفيان : ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك بان أخيك الغداة عظيما فقال : العباس يا أبا سفيان إنها النبوة قال : فنعم إذن وقام أبو سفيان فصرخ بأعلى صوته يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن فقامت إليه هند بنت عتبة فأخذت بشاربة فقالت اقتلوا الحميت (الضخم) الدسم الاحمس (الذي لا خير عنده) قبح من طليعة قوم فقال أبو سفيان ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به ، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن قالوا : قاتلك الله وما تغني عنا دارك فقال ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن فتفرق الناس إلى الكعبة وإلى دورهم وأغلقوا أبوابهم ينتظرون ما يراد بهم
مناوشات قليلة وقسم الرسول صلى الله عليه و سلم المسلمين إلى عدة فرق تدخل كل فرقة ناحية من نواحي مكة حتى يضع يده على المدينة كلها فى وقت واحد ، وأصدر أوامره المشددة إلى جميع الفرق ألا تقاتل أو تسفك دما إلا إذا أكرهت على ذلك إكراها ، وأن يعف الجيش عن أموال أهل مكة وممتلكاتهم وأن يكفوا أيديهم عنها وكان تقسيم الجيش على الوجه التالي خالد بن الوليد على الجناح الأيمن وعليه أن يدخل مكة من أسفلها . الزبير بن العوام على الجناح الأيسر وعليه أن يدخل مكة من أعلاها عن طريق جبل كدى . أبو عبيدة بن الجراح جعله على المهاجرين وعليهم أن يدخلوا مكة من أعلاها فى حذاء جبل هند . سعد بن عباده ويدخل مكة من جانبها الغربي ناحية جبل كداء ومعه الراية حتى نزعت منه كما سنذكر ودخل رسول الله صلى الله عليه و سلم من أذاخر حتى نزل بأعلى مكة وضربت له هنالك قبته . وروى أن سعد بن عبادة قال فى ذلك (اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة اليوم أذل الله قريشا ) فشكا أبو سفيان إلى رسول الله ما سمعه من سعد بن عبادة فاستنكر رسول الله ذلك وقال : بل اليوم يوم المرحمة اليوم يعز الله قريشا ويعظم الله الكعبة
ودخلت الجيوش كلها مكة فلم تلق منها مقاومة إلا مناوشات قليلة بقيادة صفوان بن أمية وعكرمة بن أبى جهل وسهيل بن عمر من قريش وبين أصحاب خالد بن الوليد فى الخندمه وهو مكان أسفل مكة ، وأصيب من المشركين كما يقول ابن اسحقا ثلاثة عشر رجلا ثم انهزموا ، وتم الاستيلاء على جميع أطراف مكة وضواحيها ودخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة وهو خافض رأسه تواضعا لله عز وجل حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى أن ذقنه ليكاد يمس واسطة الرحل ودخل وهو يقرأ سورة الفتح ، وكان ذلك صبح يوم الجمعة لعشرين ليلة خلت من رمضان سنة ثمان من الهجرة
وانطلق رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى وصل البيت فطاف بالبيت سبعا ، وكان فى يده قوس وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما فجعل كلما مر بصنم طعنها بالقوس ويقول : "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا" والأصنام تتساقط على وجوهها
ورأى فى الكعبة الصور والتماثيل فأمر بالصور فطمست وبالتماثيل فكسرت ، وكان مما رآه صور الملائكة وغيرها فرأى إبراهيم عليه السلام مصورا فى يده الازلام ويستقسم بها فقال قاتلهم الله جعلوا شيخنا يستقسم بالازلام ما شأن إبراهيم والازلام {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} - سورة آل عمران آية 67
ولما قضى عليه الصلاة والسلام طوافة دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له ودخل ثم أعادها عليه السلام لعثمان قائلاً :خذوها يا بنى طلحة خالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم
وتكاثر الناس حول الرسول فى المسجد حتى امتلأ وهم ينظرون ماذا سيصنع الرسول بهم وقد مكنه الله منهم فنظر إليهم الرسول ثم قال : لا اله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء الناس من آدم وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} سورة الحجرات – آية 13
ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم ؟ قالوا خيراً أخ كريم وابن أخ كريم قال فإني أقول لكم كما قال يوسف لاخوته "لا تثريب عليكم اليوم" أذهبوا فانتم الطلقاء
وأمر بلالا أن يصعد فيؤذن على الكعبة ورؤساء قريش وأشرافهم يسمعون كلمة الله تعلو وصداها يتردد فى أرجاء مكة ، ودخل الرسول دار أم هانىء بنت أبى طالب فاغتسل وصلى ثماني ركعات صلاة الفتح شكر الله تعالى على ما انعم به عليه
وبهذه الكلمات والتصرفات عفا الرسول عن كل شئ وتناسى كل إساءة وتجاوز عن جرائم قريش الماضية كلها حتى لقد امتد عفوه فشمل من كان قد أهدر دماءهم عند دعيبمكة وإن تعلقوا بأستار الكعبة وقبل شفاعة من لم ينفذ فيه القتل منهم ورأت قريش تلك السماحة وذلك الكرم ففتحت للرسول قلوبها فكان هذا الفتح بلا شك أجل وأعظم من أن تصل إليه سيوف المسلمين فقد لانت أفئدة ما كانت لتلين ورقت القلوب القاسية والتفت حول الرسول فى إعجاب بالغ على الصفا حين جلس للبيعة
بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهند بنت عتبة جلس رسول الله صلى الله عليه و سلم على الصفا واجتمع الناس حوله لبيعه على الإسلام فأخذ عليهم العهد بالسمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا ، ولما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء وفيهن هند بنت عتبة زوج أبى سفيان متنقبة متنكرة لما كان من صنيعها بحمزة عم النبي صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى صلى الله عليه و سلم لهن : بايعنني على ألا تشركن بالله شيئا فقالت هند : والله إنك لتأخذ علينا أمرا لا تأخذه على الرجال وسنؤتيكه فقال النبي : ولا تسرقن فقالت : والله إني كنت أصبت من مال أبى سفيان الهنة وما كنت أدري أكان حلا لي أم لا؟ فقال أبو سفيان وكان شاهدا لما تقول : أما ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : وإنك لهند بنت عتبة ؟ قالت : نعم فاعف عما سلف عفا الله عنك ثم قال : ولا تزنين فقالت : يا رسول الله وهل تزني الحرة ولما قال: ولا تقتلن أولادكن قالت: ربيناهم صغارا وقتلتهم يوم بدر كبارا فأنت وهم أعلم فضحك عمر بن الخطاب من قولها حتى استغرب أي بالغ فى الضحك فقال الرسول صلى الله عليه و سلم : ولا تأتين بهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن قالت : والله إن إتيان البهتان لقبيح ولبعض التجاوز أمثل ثم قال : ولا تعصينني في معروف قالت : ما جلسنا هذا المجلس ونحن نريد نعصيك فى معروف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يصافح النساء ولا يمس امرأة ولا تسمه إلا امرأة أحلها الله له أو ذات محرم منه
تخوف الأنصار من بقاء الرسول بمكة ولما فتح الله مكة على رسوله –وهى بلده و وطنه وأحب بلاد الله الى قلبه-تحدث الأنصار فيما بينهم فقالوا : أترون رسول الله إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها ؟ وسأل رسول الله الأنصار عن حديثهم ولا يعرفه غيرهم فاستحيوا فقال لهم الرسول صلى الله عليه و سلم : معاذا الله المحيا محياكم والممات مماتكم فاطمأنت قلوبهم وضرب الرسول بذلك أروع المثل فى البر والوفاء
إسلام فضالة وعندما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمسجد يطوف بالبيت اقترب منه فضالة بن عمير وهم بقتله فلما دنا منه قال له : أي فضالة قال : نعم يا رسول الله فقال له الرسول : ماذا كنت تحدث به نفسك ؟ قال : لا شئ كنت اذكر الله فضحك النبي صلى الله عليه و سلم ثم قال : استغفر الله ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه وكان فضالة يقول والله ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق الله شيئا أحب إلى منه ورجع فضالة إلى أهله فمر بأمراة كان يتحدث إليها فقالت هلم إلى الحديث فقال لا وانبعث فضالة يقول
قالت هلم إلى الحديث فقلت لا يأبى عليك الله والإسلام بالفتح يوم تكسر الأصنام لو ما رأيت محمدا وقبيله والشرك يغشى وجهة الإظلام لرأيت دين الله أضحى بيننا تطهير ضواحي مكة من الأصنام وأقام الرسول بمكة بضعة عشرة يوما ينظم شئونها ويفقه أهلها فى الدين وفى هذه الأثناء بعث السرايا للدعوة على الإسلام لا للقتال ولتحطيم الأصنام من غير سفك الدماء فوجه خالد بن الوليد لهدم صنم "العزى" أكبر أصنام قريش وأرسل عمرو بن العاص لهدم"سواع" وهو أكبر أصنام هذيل وبعث سعد بن زيد الاشهلي لهدم "مناة" وقد عادت كل هذه السرايا مكللة بالنجاح وذهبت هيبة الأوثان من النفوس وزال سلطانها
سرية خالد بن الوليد إلى بنى خزيمة فى شوال سنة ثمان قبل الخروج إلى حنين عند جميع أهل المغازي وقد بعثه عليه الصلاة والسلام لما رجع من هدم العزى والرسول مقيم بمكة وبعث معه ثلاثمائة وخمسين رجلا داعيا الى الإسلام
حرمة مكة وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مكة خطيبا فأعلن حرمة مكة إلى يوم القيامة "لا يحل لامرء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما أو يعضد (يقطع) بها شجرة" وقال : "لم تحلل لأحد كان قبلي ولا تحل لأحد يكون بعدي" ثم إنصرف راجعا إلى المدينة
اثر فتح مكة وكان لفتح مكة أثر عميق فى نفوس العرب فشرح الله صدر كثير منهم للإسلام ، وأقبلوا على الإسلام إقبالا لم يعرف قبل ذلك وصاروا يدخلون فى دين الله أفواجا
غزة حنين لما سمعت هوزان برسول الله صلى الله عليه و سلم وما فتح الله عليه من مكة راعهم إنتصار المسلمين ، وكانت هوازن قوة كبيرة بعد قريش فلم تخضع لما خضعت له قريش واردات أن يكون لها الفضل فى التصدي لقتال المسلمين واستصال شأفتهم فيقال إن هوازن إستطاعت ما لم تستطعه قريش وكان قبائل هوازن تقع على بعد بضعة عشر ميلا من مكة من جهة عرفات وقام مالك بن عوف النضري –سيد هوازن– فنادى بحرب الرسول صلى الله عليه و سلم واجتمع اليه مع هوازان ثقيف كلها ونصر وحثم كلها وسعد بن بكر وناس من هلال-تبعد عن مكة 120 كم و أهم مدنها الطائف-و سعد بن بكر بجوارها و هما في الجنوب الشرقي من مكة
واجمعوا السير الى الرسول صلى الله عليه و سلم وبلغ من عنادهم وتحديهم انهم جمعوا اموالهم ونساءهم وأبناءهم وانعامهم فى مؤخرة الجيش عند (اوطاس) ليكون ذلك حافزا لهم على الثبات والاستماتة في القتال
وذهب إلى دريد بن الصمة وكان شيخا كبيرا مجربا مشهوراً بأصالة الرأي والحكمة فيهم يسألونه الرأي والمشورة فلما سمع دريد رغاء البعير وثغاء الشاه وبكاء الصغير سأل عن سبب خروج المقاتلين ومعهم أموالهم وأبناءهم ونساءهم فقال له مالك بن عوف قائدهم أردت أن أجعل خلف كل رجل منهم أهله وماله ليقاتل عنهم فزجره دريد وأخبره أنه لا يرد المنهزم شئ وقال له إن كانت الحرب لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه وإن كانت عليك فضحت فى أهلك ومالك ولم يأبه مالك بن عوف لقول دريد ومشورته و قال مالك للناس : إذا رأيتم المسلمين فاكسروا جفون سيوفكم ثم شدوا شدة رجل واحد
وبلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم خبرة هذه الاستعدادات فقرر على الفور أن يبدأ بمهاجمتهم وخرج إليهم من مكة يوم السبت 6 شوال سنة ثمان من الهجرة على رأس جيش يبلغ عدده اثني عشر الفا من بينهم الفان من أهل مكة ومنهم من هو حديث العهد بالإسلام ومنهم من لم يسلم – واستعار رسول الله من صفوان ابن أمية أدرعا وسلاحا وهو يومئذ مشرك
ومضى رسول الله بجيشه الكبير يريد لقاء هوازن ونظر بعض المسلمين فوجد أن عدد الجيش كبيراً لم يبلغه فى غزوة قبل ذلك فقالوا : لن نغلب اليوم عن قلة
وكانت هوازن و أحلافها قد رسموا خطتهم على الاستفادة من طبيعة البلاد فعسكروا فى وادي حنين وكمنوا لهم فى شعابه و أمنائه ومضايقه بحيث لا يراهم الداخل إلى الوادي وقد أجمعوا وتهيئوا واستعدوا وربضوا فى اماكنهم طوال الليل فى انتظار مرور جيش المسلمين إلى حنين وكان على المسلمين ليذهبوا اليهم أن يجتازوا هذه المضايق والأنحاء و الشعاب
وسار جيش المسلمين حتى أقترب من مدخل وادي حنين فتقدم المسلمون إلى مدخله وهم ينحدرون فيه انحدارا فى ظلام الصبح ففاجأهم كمين العدو الذي كان مستتراً في شعاب الوادي ومضايقة ورشقوهم بالنبال وأصلتوا عليهم السيوف وشدوا عليهم شدة رجل واحد
فانزعج المسلمون لهول المفاجأة وانتشر عامة الناس راجعين لا يلوى منهم أحد على أحد وضاق عليهم المهرب فارتطموا في الظلام بما وراءهم من الصفوف فاختلط الحابل بالنابل ولجأ أكثرهم إلى الفرار
ولما رأى من كان مع رسول الله صلى الله عليه و سلم من مسلمة الفتح والذين لما يدخل الإيمان في قلوبهم هذه الهزيمة شمت بعضهم وتكلم رجال منهم بما فى أنفسهم من الضغن فقال أبو سفيان : ولا ينتهي هزيمتهم دون البحر وقال آخر : ألا بطل السحر اليوم وحاول شيبة بن طلعة قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب اليه ليقتله ولكن الله لم يمكنه منه وناداه الرسول فمسح صدره ثم قال : اللهم أعذه من الشيطان يقول شيبة : فوالله لقد كان ساعتئذ أحب إلى من سمعي وبصري ونفسي وأذهب الله ما كان فى نفسي
اما رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد ثبت مع قلة من أصحابه لا يتزحزح وأخذ يحاول جاهدا جمع قواته المبعثرة وهو يقول
أنا ابن عبد المطلب أنا النبي لا كذب هلموا إلى أيها الناس أنا رسول الله أنا محمد بن عبد الله وجعل العباس ينادي يا معشر الأنصار يا أصحاب الشجرة –يعنى شجرة الرضوان– فاجابوا لبيك وكان رجلا صيتا قال فيذهب الرجل ليأتي بعيره فلا يقدر على ذلك يمنعه كثرة الاعراب المهزومين فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه ويأخذ سيفه وقوسه وترسه ويقتحم عن بعيره ويخلى سبيله ويؤم الصوت حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى إذا اجتمع إليه منهم طائفة قام الرسول بهجوم مضاد فاقتتلوا قتالاً عنيفاً ونظر الرسول إلى هذا القتال الضاري فقال : الآن حمي الوطيس ثم اخذ رسول الله حصيات فرمى بها وجوه الكفار ثم قال : إنهزموا ورب محمد فما هو إلا أن رماهم يقول العباس فمازلت أرى جندهم كليلا وأمرهم مدبراً
وأنزل الله تبارك وتعالى ملائكته بالنصر فامتلأ بهم الودي وتمت هزيمة هوازن وذلك قوله تعالى :{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ {25} ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ} سورة التوبة-آية 25-26
وغنم المسلمون في الغزوة غنائم كبيرة كانت أعظم غنيمة حصل عليها المسلمون إلي هذا الوقت فقد بلغ ما جمعه المسلمون كما يروي ستة آلاف من الذرارى والنساء, والإبل أربعة وعشرون ألفا, والغنم أكثر من أربعين ألف شاه, وأربعة آلاف أوقية من الفضة
وأمر الرسول صلى الله عليه و سلم أن ترسل هذا الغنائم إلى (الجعرانة) فحبست بها حيث بقيت بها إلى أن عاد الرسول من حصار الطائف كما سنذكر فى الصفحات التالية, ويمكننا أن نقول أن غزوة حنين وهزيمة هوازن كانت آخر مقاومة كبيرة قاومها العرب للرسول والمسلمين وشرح الله صدورهم للدعيبفى الإسلام بعد ذلك كما سنرى
غزوة الطائف كان مالك بن عوف الذي قاد الجموع إلى حنين سار بعد الهزيمة مع ثقيف إلى الطائف, وأغلقوا عليهم أبواب مدينتهم ودخلوا حصنهم المنيع بعد أن جمعوا فيه من المؤن والذخيرة ما يكفيهم لمدة عام, فسار الرسول إليهم ومضى حتى نزل قريبا من الطائف وضرب المسلمون حولهم الحصار وقذفوا حصنهم بالمنجنيق لأول مرة واستمر حصارهم كما ذكر ابن إسحق بضعا وعشرين ليلة قاتلوا فيها قتالا شديد وتراموا بالنبل
ولما ضاق الحصار وطالت الحرب أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقطع الأعناب والنخيل لثقيف, وهى مما يعتمدون علية في معاشهم ووقع المسلمين فيها يقطعون علهم يخرجون للدفاع أو طلب الصلح لكنهم سألوا الرسول أن يدعها لله والرحم فقال فإني أدعها لله والرحم
وفى أحد الأيام استشار رسول الله صلى الله عليه و سلم نوفل بن معاوية الديلي وقال : يا نوفل ما ترى فى المقام عليهم؟ فقال : يا رسول الله ثعلب فى جحر إن أقمت علية أخذته وأن تركته لم يضرك ورفع النبي صلى الله عليه و سلم عنهم الحصار وقرر العودة دون أن يفتح الطائف فلما ارتحلوا قال لهم الرسول قولوا: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون وفى أثناء الرجوع طلب بعض الصحابة من الرسول أن يدعو على ثقيف فقال: اللهم أهد ثقيفاً وأت بهم مسلمين
وسار الرسول بجيشه حتى نزل الجعرانه (حيث كان قد ترك الغنائم والسبي الذي حازه من هوازن وحلفائها) وتأنى بها بضعة عشر يوما ليرجع إليه هوازن ومن حالفهم تائبين فيرد عليهم غنائمهم فلم يجئه أحد فشرع يقسمها ليسكت هؤلاء المتطلعين الذين أزدحموا على رسول الله يقول: يا رسول الله أقسم علينا فيأنا, حتى الجئوه إلى شجرة فاختطف منة رداءه فقال : أيها الناس ردوا على ردائي فوالله لو كان لكم بعدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم ثم ما لقيتموني بخيلاً و لا جباناً ولا كذاباً ثم قال إلى جنب بعير فأخذ من سنامه وبره فجعلها بين إصبعيه ثم رفعها فقال : أيها الناس والله مالي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس والخمس مردود عليكم
وأعطى رسول الله صلى الله عليه و سلم المؤلفة قلوبهم وكانوا من أشراف قريش وبعض القبائل الأخرى يتألفهم ويتألف بهم قومهم فأعطى أبا سفيان أبن حرب مائة بعير وأعطى ابنة معاوية مائة أخرى وأعطى حكيم بن حزام مائة... إلخ وأعطى عباس بن مرداس بعض الابل فسخطها وعاتب فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال فى ذلك شعرا فأعطاه الرسول حتى رضي ولم يعط الرسول من هذه الغنائم للأنصار ولا كبار المهاجرين ووكلهم إلى إسلامهم
موقف الأنصار ولما أعطى رسول الله صلى الله عليه و سلم من تلك العطايا فى قريش وفى قبائل العرب ولم يكن فى الأنصار منها شئ وجد هذا الحي من الأنصار فى أنفسهم حتى كثرت منهم القاله, حتى قال قائلهم : قد لقي والله رسول الله قومه فذهب سعد بن عباده إلى رسول الله فقال: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك فى أنفسهم لما صنعت فى هذا الفيء الذي أصبت قسمت فى قومك وأعطيت عطايا عظيمة فى قبائل العرب ولم يك هذا الحي من الأنصار منها شئ فقال الرسول: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله ما أنا إلا من قومي قال : فأجمع لي قومك في هذه الحظيرة فخرج سعد فجمع الأنصار وقال: يا رسول الله لك هذا الحي من الأنصار فأتاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فحمد الله و أثنى عليه بما هو أهله ثم خطب الأنصار قائلا: يا معشر الأنصار ألم آتكم ضلالا فهداكم الله وعالة فأغناكم الله وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟؟ قالوا: بلى الله ورسوله آمن وأفضل قال: ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله لله و لرسوله المن والفضل قال: اما والله لو شئتم لقلتم يا معشر الأنصار فى أنفسكم فى لعاعة (شجرة خضراء شبه بها نعيم الدنيا) من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله إلى رحالكم؟؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعب لسلكت شعب الأنصار اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار فبكى القوم حتى أحضلوا (بللوا) لحاهم وقالوا رضينا برسول الله قسما وحظا
الرسول يرد السبايا إلى هوازن وأتى وفد هوازن إلى الرسول صلى الله عليه و سلم وقد أسلموا وسألوا رسول الله أن يرد عليهم سبيهم وثروتهم فقالوا : يا رسول الله إنا أهل وعشيرة وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك فامنن علينا من الله عليك وقال أحدهم: يا رسول الله إنما فى الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟؟ فقالوا : يا رسول الله خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا- بل نرد إلينا نساءنا وأبناءنا فهو أحب إلينا فقال: أما ما كان لي ولبنى عبد المطلب فهو لكم وإذا ما أنا صليت الظهر بالناس فقوموا فقولوا إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله فى أبنائنا ونسائنا فأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم فلما صلى رسول الله بالناس الظهر قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به فقال رسول الله : أما ما كان لي ولبنى عبد المطلب فهو لكم و قال المهاجرون : ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه و سلم وقالت الأنصار : وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه و سلم, و أبى ثلاثة من بنى تميم وبنى فزارة أن يتنازلوا عن سبيهم
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: إن هؤلاء القوم قد جاءوا مسلمين وقد كنت استأنيت بهم وقد خيرتهم فلم يعدلوا بالأبناء والنساء شيئا فمن كان عنده منهن شيء فطابت نفسه بأن يرده فسبيل ذلك ومن أحب أن يستمسك بحقه فليرد عليهم وله فريضة ست فرائض من أول ما يفئ الله علينا
فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم ولم يتخلف منهم أحد وسأل رسول الله الوفد عن مالك بن عوف فأخبرهم أنه بالطائف مع ثقيف فقال أخبروه أنه إن أتاني مسلما رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من الإبل, وعلم مالك بن عوف بذلك فخرج من الطائف سراً وأدرك رسول الله صلى الله عليه و سلم بالجعرانة أو بمكة فرد علية أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل و أسلم فحسن إسلامه فأستعمله رسول الله على من أسلم من قومه من القبائل التي حول الطائف
الشيماء أخت الرسول وكان من ضمن السبايا الشيماء بنت حليمة السعدية أخت رسول الله صلى الله عليه و سلم من الرضاعة, وأعنفوا عليها فى السوق وهم لا يدرون فقالت للمسلمين: أتعلمون والله إنني لأخت صاحبكم من الرضاعة فلم يصدقوها حتى أتوا بها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ولما إنتهت الشيماء الى رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت يا رسول الله: إنس أختك من الرضاعة قال : وما علامة ذلك؟ قالت : عضة عضضتها فى ظهري وأنا متوركتك-يعنى حاملتك على وركي وعرف رسول الله صلى الله عليه و سلم العلامة فسر بها وأدناها منة وبسط لها رداءه وأجلسها عليه ثم خيرها بين الإقامة معه أو العودة إلى قومها فرأت أن تعود إلى قومها فأجابها لذلك وأعطها ثلاثة أعبد وجارية ونعما وشاة- هذا ولا يفوتنا أن نذكر أن الشيماء قد أسلمت
عمرة الجرانة ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه و سلم من غزوة حنين وقسمت المغانم فى الجعرانة وهى ميقات أهل الطائف أحرم منها الرسول للعمرة واعتمر ثم قفل راجعا إلى المدينة وذلك فى شهر ذي القعدة سنة ثمان, واستخلف الرسول على مكة عناب بن أسيد كما خلف معه الصحابي الجليل معاذ بن جبل ليعلم الناس الإسلام ويفقهم في الدين
غزوة تبوك لم يكون فتح مكة وما حولها والنشاط العسكري في الجنوب صادا للنبي صلى الله عليه و سلم عن التفكير فى مناطق الشمال والخطر الذي يتهدد الدعوة من ناحية الروم فإن الروم كانوا يبيتون نية الشر والعداء للإسلام, وكانت انتصارات المسلمين المتلاحقة وتوطيد سلطانهم فى الجزيرة العرب حافز لإمبراطور الروم (هرقل) على أن يعد العدة لضرب الإسلام ضربة تجهز علية وتمنعه من الوصول إلى العرب الخاضعين لنفوذهم شمال شبة الجزيرة
وترامت إلى النبي صلى الله عليه و سلم في المدينة أنباء هذه المؤامرة الحاقدة أن الإمبراطور الروماني هرقل سلح جميع القبائل التابعة له على الحدود الشام مثل لخم وجذام وعاملة وغسان تسليحا كاملا ورزقهم لمدة سنة وجاءت مقدمتهم إلى البلقاء
ولما بلغ الرسول خبر هذا التأهب لم يجد بدا من استنفار المسلمين لملاقاة هذا العدوان المبيت والخروج لمواجهتهم فى عقر دارهم ووجد الرسول صلى الله عليه و سلم أن هذه الحملة فرصة لكي يعيد الأمور إلى نصابها ويرسى العلائق بين الإسلام والنصرانية على دعائم مكينة مبناها إتاحة الفرصة لعرض الإسلام على الناس عرضا حرا قائما على الإقناع والدعوة الحسنة فإن راقهم دخلوه وإن ساءهم تركوه, بعيدا عن إرهاب الكنيسة ومقاومتها الباطشة لكل من اعتنق دينا يخالف دين المسيحية كذلك أراد الرسول أن يفهم الرومان قوة المسلمين الجديدة وأن يعطهم درسا فى احترامهم والنظر إليهم بعين الهيبة والتقدير وأنهم ليسوا لقمة سائغة كما يظنون وإلا لما خرج المسلمون بجيوشهم لملاقاة الرومان متحدين غير عابئين بعددهم أو عدتهم
وكان خروج رسول الله صلى الله عليه و سلم بهذا الجيش فى شهر رجب سنة تسع من الهجرة, وجاء إعداد جيش تبوك في وقت حر شديد حتى كان المسلمين ينحرون البعير فيتشربون ما فى كرشة من الماء, وكذلك فى زمان من عسرة الناس وجدب البلاد, وحين أوشكت الثمار أن تنضج والقوم يحبون المقام فى ثمارهم وظلالهم ويكرهون الخروج للغزو فى ظل هذه الظروف
ولكل هذه الظروف التي اكتنفت إعداد هذا الجيش سمي (جيش العسرة) أي الشدة والضيق لأنه هناك عسرة فى الماء وفى الظهر وفى النفقة والآيات التي أنزلها الله فى كتابه هى أطول ما نزل فى قتال بين المسلمين وعدوهم وقد أعلم الرسول صلى الله عليه و سلم المسلمين بهدف هذه الغزوة على خلاف عادته في كثير من الغزوات السابقة ليتأهبوا ويستعدوا فالقتال مع الروم هو صدام بأعظم قوة وأكبر دولة فى العصر, هذا بالاضافة إلى ما ذكرناه من صعاب اكتنفت هذه الغزوة
ولهذا كانت هذه الغزوة مقياسا صادقا ومناسبة مواتية لكشف النوايا وإظهار النفوس وإبراز المواقف على حقيقتها دون ما غش أو خداع
فقد تعلل المنافقون من المسلمين بعلل شتى وظهر خلال التجهيز والاستعداد نماذج من النفاق كشفها الله لرسوله وفضح نواياها- فها هو الجد بن قيس يخاطبه الرسول قائلاً : يا جد هل لك العام فى جلاد بنى الأصفر (الروم) فقال : يا رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني فوالله لقد عرف قومي ما من رجل بأشد عجبا بالنساء منى وأنى لأخشى إن رأيت نساء بنى الأصفر أن لا أصبر فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال : قد أذنت لك وفية نزل{وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} سورة التوبة-آية 49
وكره آخرون الخروج مع رسول الله صلى الله عليه و سلم خوفا من العدو وفرار من الحر الشديد و في ذلك يقول الله تعالى :{ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} سورة التوبة – آية81
أما أهل الإيمان الثابت والعقيدة القوية من أهل اليسار والغنى فقد تسابقوا فى البذل والإنفاق في إعداد هذا الجيش فهذا عثمان بن عفان رضى الله عنة أنفق نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها حتى دعا له رسول الله صلى الله عليه و سلم قائلاً : اللهم أرضى عن عثمان فإني عنه راض وجاء أبو بكر الصديق بكل ماله فقال الرسول :هل أبقيت لأهلك شيئا؟ فقال :أبقيت لهم الله ورسوله, وجاء عمر بن الخطاب بنصف ماله, وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقيه وجاء غيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ليقدم كل واحد منهم بمقدار ثرائه وغناه
وكان هناك آخرون غيرهم من أهل الإيمان الصادق ولكنهم فقراء لا يملكون شيئا من الزاد والراحلة جاءوا للرسول يطلبون إليه أن يحملهم معه ليجاهدوا بالنفس بعد أن عز عليهم جهادهم بالمال فاعتذر لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم لعدم وجود ما يحملهم عليه فاشتد حزنهم على ذلك ولكن الله أسقط عنهم الحرج بقوله تعالى:{وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ}سورة التوبة-92
وكان هناك أيضا هؤلاء الذين فترت أول الأمر هممهم فلما جد الجد وانطلق الجيش سرعان ما عادوا إلى صوابهم وراجعوا أنفسهم وخافوا عاقبة النكوص والتخلف عن رسول الله ومن هؤلاء أبو خيثمة
عاد يوما إلى أهله بعد مسير النبي وصحبه وذلك فى يوم حار فوجد امرأتين له في عريشين قد رشت كل واحدة منهما عريشها وبردت له فيه ماء و هيأت له فيه طعام
فلما دخل قام على باب العريش فنظر الى امرأتيه وما صنعتا له فاستيقظ ضمير الرجل وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فى الشمس والريح والحر وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء ؟ في ماله مقيم ما هذا بالنصف ثم قال والله لا أدخل عريش واحد منكما حتى الحق برسول الله صلى الله عليه و سلم فهيئا لي زادا ففعلتا ثم ارتحل فى طلب رسول الله حتى أدركه حين نزل بتبوك فقال له رسول الله خيرآ ودعا له بخير
وخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم فى رجب سنة تسع وعلى الرغم من كثرة المعتذرين والمتخلفين فقد بلغ تعداد الجيش أكثر من ثلاثين ألفا ولذا كان أكبر جيش خرج به الرسول فى غزوة
وخلف الرسول على أهله على بن أبى طالب وقال به حين شكا إليه إرجاف المنافقين : أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس نبى بعدى فرجع على إلى المدينة ومضى رسول الله صلى الله عليه و سلم فى سفرة
ونزل رسول الله صلى الله عليه و سلم بـ "الحجر" وهى ديار ثمود فأخبرهم الرسول أنها ديار المعتدين وقال صلى الله عليه و سلم : لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم إلا وأنتم باكون خوفاً أن يصيبكم ما أصابهم ، وقال : لا تشربوا من مائها شيئا ولا تتوضئوا منه للصلاة وما كان من عجين عجنتموه فأعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئا ولا يخرجن أحد منكم إلا ومعه صاحب له
وواصل الرسول سيرة متحملا مشقة السفر وقلة الزاد والماء والرواحل صابرا على إرجاف المنافقين وتشكيكهم حتى لقد قالوا للمسلمين أتحسبون جلاء بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا ؟ والله لكأنا بكم غدا مقرنين فى الحبال
حتى وصل به المطاف إلى "تبوك" على حدود الإمبراطورية الرومانية فأناخ الجيش رواحله وعسكر فيها ينتظرون عندها ملاقاة الأعداء
ويبدو أن الروم لما بلغهم أمر جيش المسلمين وقوته وما عرفوه عن المسلمين فى مؤته من البسالة والإقدام آثروا الانسحاب من تبوك إلى داخل بلاد الشام للاحتماء بحصونها فلم يجد المسلمون أثراً لهم
وقد أدى انسحاب الروم وبقاء المسلمين فى تبوك بضع عشرة ليلة أو عشرين ليلة يتحدون فيها قوات الروم إلى توافد كثير من القبائل المسيحية الواقعة حول خليج العقبة لمصالحة الرسول والارتباط معه بمعاهدة صداقه
وقد أتى يوحنا رؤبه صاحب أيله فصالح الرسول صلى الله عليه و سلم وأعطاه الدية ، وأتاه أهل "جرباء" و "اذرح " بلدين بالشام فصالحا الرسول على الجزية وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم كتاب أمن كما بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم سرية بقيادة خالد بن الوليد إلى اكيدر بن عبد الملك أمير دومة الجندل فأسره خالد وبعث به إلى رسول الله فحقن له دمه وصالحه على الجزية وخلى سبيله
وكانت هذه الغزوة آخر غزواته صلى الله عليه و سلم ولما عاد رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ثم جلس للناس فجاء المخلفون يعتذرون إليه ويحلفون له ليرضى عنهم وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله
إلا أن الله الذي علم سوء نيتهم لم يقبل عذرهم ولم يرضى عنهم وأخبر رسوله " بأنهم منافقون " لكن ثلاثة من هؤلاء المتخلفين هم كعب بن مالك مرارة ابن الربيع وهلال بن أمية كانوا من السابقين الأولين ولهم حسن بلاء فى الإسلام وقد تخلفوا من غير شك ولا نفاق بل كان تخلفهم إيثاراً وللراحة وفراراً من شدة الحر وزلة وقعوا فيها لحظة من لحظات الضعف الانساني ولم يحلفوا كذبا ولم ينافقوا كما فعل غيرهم بل ندموا على ما فعلوا وصدقوا رسول الله ، وشهدوا على أنفسهم فاعتزلهم رسول الله صلى الله عليه و سلم والمسلمون وقاطعوهم خمسين ليلة وكذلك فعل أزواجهن ، ولما تم ما أرداه الله من تمحيص هؤلاء الثلاثة وتعليم المسلمين هذا الدرس الخالد فى عدم التردد والضعف أمام تبعات الجهاد و دواعي الكفاح أنزل الله توبتهم فقال تعالى: { وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} - سورة التوبة آية 118
والى اللقاء فى الجزء التاسع من السيرة النبوية | |
|